المدوّنة

العودة الى القائمة

نقد سينمائي: عن الآلهة والبشر (2010)

31 يوليو 2011

بقلم ريم صالح، قسم الاعلام الجديد، مؤسسة الدوحة للأفلام

العنوان: عن الآلهة والبشر
العام:2010
إخراج: اكزافييه بوفوا
بطولة: لامبرت ويلسون، مايكل لونسدايل، وأوليفييه رابوردان
النوع: دراما- تاريخي

يروي فيلم ‘عن الآلهة والبشر’ المقتبس عن أحداث واقعية، قصة تسعة رهبان مسيحيين فرنسيين يعيشون في دير ببلدة جزائرية فقيرة. وهناك مخاوف تتزايد من الأصوليين الاسلاميين الذين يقومون بقتل الأبرياء، وحياة الرهبان التسعة تصبح في خطر. هؤلاء الرهبان الذين كانوا يتعايشون بشكل سلمي مع إخوانهم المسلمين، باتوا يواجهون صراع البقاء أو الرحيل، مما سيتحول لاحقاً إلى رحلة نفسية.

في البداية، يُظهر الفيلم انسجام الرهبان مع محيطهم من خلال التركيز على روتينهم اليومي. ويشمل هذا الروتين حضور الأعراس، والمآتم، وتقديمهم للرعاية الطبية المجانية، وأي شيء آخر يقدرون عليه. كما يظهرون وهم ينتهون من أداء مراسم قداس مسيحي يتبعه آذان الصلاة الاسلامية، مما يلقي الضوء على أوجه الشبه في الديانتيْن في انسجام إيماني جميل.

لكن سرعان ما سيتعكّر هذا الانسجام مع توالي الأحداث المؤسفة التي تبدأ بمقتل فتاة صغيرة في حافلة لأنها لا ترتدي الحجاب، يتبعها مجزرة في مجموعة من عمّال صرب في الجزائر. هذه الأحداث تتسبب بتصاعد موجة الخوف لدى المسلمين والرهبان على حد سواء، مما قد يحدث.

ليس أن الجميع معرضون لهذا الخطر، فالجيش الجزائري يعرض تأمين الحماية للدير. غير أن كريستشين (لامبرت ويلسون)، الراهب المسؤول، يقرّر مواجهة المصير ذاته الذي يواجهه سكان البلدة، رافضاً حماية الجيش. هذا القرار يؤدي إلى انقسامات بين الكهنة الباقين، مما يطرح العديد من الأسئلة الوجودية والايمانية بعد أن يقرّر بعضهم الرحيل ويفضّل البعض الآخر القيام بواجباته الدينية والبقاء.
ومع تصاعد نبرة القتل، وشبح الموت يرفرف فوق رؤوس الجميع، يقرّر الرهبان أخيراً البقاء. وحين يحين وقت القرارات المصيرية، يجدون أنفسهم أمام أقوى امتحان روحاني. يصحب هذا القرار شكوكاً ومخاوف، لكنه نابع عن حب للمجتمع الذي يعيشون فيه منذ أعوام. بعبارات أخرى، يوافق الرهبان على البقاء والموت مع إخوانهم الملسمين في السرّاء والضرّاء.

يُكشف النقاب عن الحكمة وراء هذا الفيلم في المشهد الافتتاحي: “إنكم آلهة وبنو العلي كلكم. لكن مثل الناس تموتون وكأحد الرؤساء تسقطون”. تأخذنا هذه العبارات النبوئية إلى الرؤية العميقة لهؤلاء الرجال، وإلى عمق صراعاتهم الايمانية الداخلية. إنها تتطور بالشكل والمضمون في سياق روتينهم اليومي، مع توالي الصلوات في الفيلم. ومن خلال عبارات قداديسهم اليومية، نفهم حالتهم الذهنية.

من الناحية الجمالية، أغلب مشاهد صلوات الرهبان هي من الخلف، لكن ومع تطور مراحل إيمانهم، يبدؤون الترتيل وهم يواجهون الكاميرا، بكلمات من عبق التنوير. فتتوضح أمامنا رسالة: إنهم متـأكدون مما يريدونه، وهم يواجهون هذه الحقيقة.

أما الممثلون التسعة الذين يلعبون دور الرهبان، فهم بغاية الروعة دون أدنى شك. ففي وجوه هؤلاء الرجال كبار السن الذين يعيشون في الدير، تعابير جذابة كالأطفال، وكأن طهارة البشرية تجتمع فيها وتشعّ منها. إنهم أنقياء كالناس الذين يعيشون بينهم والذين يقلقهم مصيرهم الذي باتوا لا يتحكمون به، وهذا ما يقود إلى نشوء رابط مميّز نابع من حب لا تشوبه الأنانية.

ومع اقتراب الخطر من أبطالنا، يقوم المخرج بزيادة المشاهد القريبة من وجوههم، ولحظات الصمت وأوقات الترقّب الطويلة. وتتحوّل كل ثانية إلى عبء ثقيل على كل من المشاهد والشخصيات. ويتصعّد القلق من المصير المحتوم، في حين نعلم أن المأساة ماثلة وليست سوى مسألة وقت قبل أن تدق أبوابهم.
وعلى الرغم من أن أعمارهم تتراوح بين الخامسة والأربعين والثمانين، يذوب ضعفهم الجسدي في القوة الماثلة في أعينهم. وفي ذروة شعورهم الايماني، يتجمعون كتلاميذ المسيح، في عشاء أخير، تغمرهم السعادة ودموع الفرح، دون أية قيود داخلية. وتنتقل الكاميرا من وجه إلى آخر، على وقع موسيقى ‘بحيرة البجع’ لتشايكوفسكي، في خاتمة مجيدة.

هذا الفيلم الذي نال جائزة لجنة التحكيم الكبرى عام 2010، ليس قصة هؤلاء الرهبان فحسب؛ إنه قصة عن الأخوة التي لا تخلو منها ثقافة. إنه حل أخلاقي جذري، تجري حيثياته في إطار تاريخي، ذو بعد إنساني. فيلم “عن الآلهة والبشر” يبحث في الفرق ما بين الوعظ والواقع المعيشي.

للترجمة العربية اضغط على

blog comments powered by Disqus