المدوّنة

العودة الى القائمة

نقد سينمائي: البوسطجي (1968)

16 مايو 2011

بقلم ريم صالح، قسم الاعلام الجديد، مؤسسة الدوحة للأفلام

الفيلم: “البوسطجي”
العام: 1968
إخراج: حسين كمال
بطولة: سهير المرشدي، صلاح منصور، زيزي مصطفى، شكري سرحان
النوع: دراما

فيلم البوسطجي هو فيلم مصري كلاسيكي مشهور بالأبيض والأسود. تم تصويره عام 1968، واختير للعرض في مهرجان كان في فئة الأفلام الكلاسيكية، كنوع من تحية لضيف الشرف مصر celebrations. لم يستغرب أحد من إقدام إدارة مهرجان كان على اختيار مصر لتكون ضيف الشرف الأول للمهرجان. فلقد كان مصر تشارك في مهرجان كان منذ أواخر الأربعينات، كما أنها كانت ولا تزال القوة السينمائية الأكبر في المنطقة. ومن خلال اختيار مصر لتكون ضيف الشرف، من المؤكد أن مهرجان كان يساهم في الترويج للسينما – وصناع الأفلام- من كل أنحاء العالم، والاعتراف بالثراء التاريخ الفني والسياسي. فمع العصر التاريخي الجديد في السياسة المصرية، لا يمكننا سوى أن نتوقع ارتفاعاً في النشاطات الفنية بموازاة التغيرات السياسية.

ليس فيلم البوسطجي خياراً عشوائياً للعرض هذا العام: فحين نشاهد مضمونه الغني والاستكشافي، ندرك الأسباب وراء هذه الفترة التاريخية في الشرق الأوسط، من نواح عديدة. وقد كان قرّر مخرج فيلم البوسطجي حسين كمال أن يعرض على الشاشة ما أنكره الكثيرون في حينها، ملقياً الضوء على سيئات المجتمع المصري بنظره، مستنداً على رواية من تأليف يحي حقي.

ويروي الفيلم قصة عباس (شكري سرحان)، البوسطجي الذي تم نقله من القاهرة للعمل في الريف. يواجه عباس مشاكل في التأقلم في ذلك المجتمع الجديد والصعب، فيتكون لديه هوس بقراءة الرسائل التي يقوم بتسليمها، كوسيلة للانتقام من الفساد من حوله، أكثر من كونها حشرية ووسيلة تخلصه من الملل.

بعد ذلك يكتشف قصة حب سرية ما بين جميلة (زيزي مصطفى) ابنة العمدة، وخليل (سعيد عبدالرحمن) من بلدة مجاورة. ويتعاطف عباس مع قصتهما، ويصبح وسيطاً صامتاً، متورطاً في قصة ليست قصته. لكنه يعبث بإحدى الرسائل عن غير قصد، وهذا التغيير البسيط يغيّر شكل مستقبل الحبيبيْن.

يقدم الفيلم عدداً من النواحي الدرامية في ناحيتين رئيسييْن.

الأولى تروي قصة البوسطجي القادم من المدينة، والذي يعيش مع صراع قوي ما بين نظرته إلى الواقع الاجتماعي، ومجتمع الريفيين. يقوم بعزل نفسه عن محيطه، ويغوص في روتين قاس وممل يفرضه عليه الأشخاص الذين يقابلهم يومياً. وتجدر الاشارة إلى أن هذه الحالة مصورة بإتقان، لا سيما عبر مكتبه الذي يشبه السجن؛ وحديثه إلى الناس من خلف القضبان؛ بالاضافة إلى غرفته الرطبة المليئة بصور النساء. إنه الشعور بالاحباط وعدم القدرة على التأقلم. من ناحية أخرى، تم تقديم المجتمع الريفي بطريقة مضحكة، رافقها تمثيل ولكنة ريفية كوميدييْن ومبالغ فيهما، مظهراً تناقضاً قوياً في المعتقدات.

في بداية الفيلم ندرك أن تعليم البنات قد يشكّل تحدياً كبيراً، فما بالكم بقصة حب خارجة عن نطاق التقاليد. لكن هذه التقاليد تحمل في طياتها إحباطاً كبيراً، وظلماً ومعايير مزدوجة: فالعمدة يعتقد أن من حقه أن يكوّن علاقة مع الخادمة التي لا ترغب بذلك، بينما هو متشدد مع ابنته الشابة. أما الخادمة فلا حول لها ولا قوة وهي غير قادرة على معارضة سيدها أو أي شخص آخر، كما أن زوجة العمدة لا تقدر على مواجة زوجها بخيانته المفضوحة. مثال آخر، وهو المشهد المفضل لدي، حيث يكتشف شباب البلدة مجلات يجمعها البوسطجي وفيها صور نساء. فيتهمونه بفساد الأخلاق، لكنهم يقومون بسرقتها ليتمكنوا من مشاهدة هذه الصور، ثم يقومون بمقارنة صورهن مع أشكال زوجاتهم “الدميمات”. وهذا برأيي نقد اجتماعي يمكن أن يطبق على مجتمعات اليوم، بعد مرور أكثر من خمسين عاماً على تلك الفترة.

أما الناحية الثانية التي تجري بالتوازي مع الأولى، فهي قصة الحب. فالرابط الوحيد بين الحبيبيْن هي الرسائل التي يبعثانها بشغف لبعضهما البعض. ويتعاطف البوسطجي مع ما يظن أنها أجمل وأندر وأصدق علاقة في البلدة، بالمقارنة مع الناس التافهين الذين يتعامل معهم يومياً. فالحبيبان يتكلمان لغة يفهمها ويحترمها. وتصبح هذه العلاقة وبالأخص جميلة من إحدى مسببات القلق لديه، لأنه يعلم تماماً ما قد يفعله أهل البلدة لو كشفوا أمرها. ويأخذنا الفيلم في رحلة، عبر كلماتهما، حيث يملؤنا الشوق لإيجاد مخرج يؤدي إلى سعادتهما، بعيداً عن البلدة.

ويحمل الفيلم في طياته رسائل قوية حول المحرمات الجسدية، وجرائم الشرف والثأر، عبر سخرية بارعة وذات حدّيْن. ويكشف لنا حسين كمال، في أحد أفضل أفلامه، عن رؤيته المثقفة والفنية في طريقة التعامل مع العقلية المصرية الريفية في حينها، والرغبة بإحداث التغيير.

إنه فيلم رائع دون شك، يحمل في طياته سحر أفلام الأبيض والأسود، بينما يحتفل أيضاً بالعصر الذهبي للسينما المصرية.

blog comments powered by Disqus