المدوّنة

العودة الى القائمة

أهل السينما: صباح

05 مارس 2012

بقلم ريم صالح، قسم الاعلام الجديد، مؤسسة الدوحة للأفلام

إنها صاحبة الشعر الأشقر والابتسامة الأخّاذة التي تتمايل على أنغام أغانيها، هذه هي صورة المطربة اللبنانية الساحرة صباح التي لا تزال راسخة في ذهني منذ صغري. قبل سنوات قليلة، حظيت بفرصة الانضمام إلى فريق عمل تلفزيوني لإجراء مقابلة معها على مدى ثلاث ساعات متواصلة، حينها كانت تبلغ 82 عاماً. وعلى الرغم من حماستي، إلا أنني كنت آخذ عليها دوماً ظهورها الإعلامي المتكرر، الذي أعطاني الانطباع بأنها لا تزال تعيش في ظلال الماضي. كنت أحبّذ لو أنها ابتعدت عن الأضواء لترسخ في أذهاننا ذكرى جمالها الأبدي الذي لا يهرم. مع العلم أن فنانات جيلها أمثال شادية، فاتن حمامة وهند رستم، انسحبن من الساحة الفنية قبل أن يسدل الستار الأخير.

وصلنا إلى أحد فنادق بيروت المتواضعة حيث كانت تقطن حينها، كانت برفقة مدير أعمالها ومصفف الشعر جوزيف غريب. كانت مفلسة ووحيدة. اعتقدت أنها تعيش في قصر، لكن ذلك ليس موضوعنا الآن. وإذ بها تطلّ بكامل أناقتها بانتظار بدء اللقاء، وهي المعروفة بدقة مواعيدها.

ما إن بدأت الكاميرا بالتصوير، حتى شعّ بريق عينيها، طلبت منّا بأسلوب لطيف ما إذا كان باستطاعتها إلقاء نظرة على صورتها على شاشة المخرج. عدنا معها إلى الماضي، إلى بداياتها في مصر في الأربعينات. سطع نجمها بعدما أرسلت لها المنتجة آسيا داغر تذكرة سفر إلى القاهرة لإجراء تجربة آداء بعد أن سمعت بموهبتها من خلال صهرها. لدى وصولها إلى مصر،استعانت آسيا باختصاصيين لتقييم صوتها، فأجمعوا على أنها بحاجة إلى التمارين، غير أن صانع الأفلام المصري هنري بركات، رأى أن باستطاعتها مباشرة التمثيل على الفور، فوقّعت عقوداً لثلاثة أفلام، لتنجز أولها عام 1943 “القلب له واحد”. وهكذا ولدت نجمتنا وتألقت في أكثر من 86 فيلماً، وبرصيد غنائي تخطى الـ 3000 أغنية.

في سياق اللقاء، بدأت تحدثنا عن عمالقة السينما الذين تعاملت معهم، وعن أفلامها الغنائية الأسطورية مع الممثل السوري فريد الأطرش، وعبد الحليم حافظ أشهر مطربي ذاك الزمن على الإطلاق. أعادتني نبرة الحنين في صوتها إلى حقبة أفلام الأبيض والأسود، لتعيد إحياء بريق ذكرى مرحلة السينما العربية الذهبية في ذهني. كانت تروي دائماً قصصاً شخصية جديدة للعاملين معها. أمتعتني بقصص عبد الحليم حافظ الذي كان يقفز من النافذة لرؤيتها، بسبب عائلتها المحافظة. كانت تبتسم بين الفينة والأخرى، غارقةً في ذكرياتها. شعرت لوهلة أن المرأة الجالسة أمامي هي ليست مجرّد سيدة عجوز في ثمانينيات عمرها، بل ألماسةً ثمينة لا عمر لها.

خلال المقابلة، تحدثت صباح بصيغة الحاضر بكثير من المشاعر والشغف، لا سيما حين سألناها عن حب حياتها رشدي أباظة. لقد كان أسطورة السينما المصرية، تزوجت منه لمدة ثلاثة أيام فقط في العام 1967. قررت الابتعاد عنه لأنه كان لا يزال متزوجاً من الراقصة المصرية الشهيرة سامية جمال. بقي أباظة حب حياة صباح. تقول: “عندما أشاهده على الشاشة، أشعر بأنه حقيقي إلى درجة أنه سيخرج في أية لحظة ليكون إلى جانبي”.

في الخمسينات والستينات ، تصدّرت أخبار حياة صباح الشخصية وزيجاتها المتعددة (8 أو 9 حتى آخر تعداد) عناوين الصحف وأعمدة المجلات، وهي التي عُرفت بثرائها وكرمها، ما دفع بعدد من أزاوجها إلى وصفها بالـ“مصرف”. وعلى الرغم من كل الظروف التي تخبطت بها، رفضت صباح تناول أي من أعدائها بأسلوب مهين أو بعبارات سلبية. لاحقاً، طغت أخبار حياتها الشخصية على ما عداها من أخبار نشاطاتها الفنية، ونسي الناس موهبتها الحقيقة، فوقع جمالها وصوتها ضحايا الأقاويل وأخبار صفحات الصحافة الصفراء. بعيداً عن كل شيء، استطاعت صباح في ذروة تألقها تحدي مجتمعها باستقلاليتها، بصوتها وبأسلوب حياتها الباذخ. لقد كانت روحها حرةً، وهي فضّلت هذه الحرية على أي شيء آخر.

في نهاية اللقاء، أدركت الحقيقة التالية: كما أنه لا وجود لسينما عربية من دون صباح، هي أيضاً لم تكن لتتمكن من العيش بعيداً عن الكاميرا، من دونها تذبل وتموت. وكما سبق لها أن صرحت لأحد الكتاب “قليل من الضوء كافٍ بالنسبة لي كي أحيا”.

blog comments powered by Disqus