المدوّنة

العودة الى القائمة

نقد سينمائي: آنسانديه (حرائق)

14 أغسطس 2011

بقلم ريم صالح، قسم الاعلام الجديد، مؤسسة الدوحة للأفلام

الفيلم: آنسانديه (حرائق)
العام: 2010
إخراج: دنيس فيلنوف
بطولة: لبنى أزابال، ميليسا ديزورمو-بولان وماكسيم غوديت
النوع: دراما، غموض، حرب

تبدأ القصة بوصية تتركها نوال (لبنى أزابال)، مواطنة كندية من أصول شرق أوسطية، لكل من التوأميْن جان (ميليسا ديزورمو-بولان) وسيمون (ماكسيم غوديت). وتتألف هذه الوصية من مغلفيْن مختوميْن، عليهما تعليمات بتسليمهما إلى كل من والدهما المتوفي، وأخوهما الأكبر الذي اكتشفا وجوده حديثاً. ومن هنا تبدأ مغامرة التوأميْن في بلد تمزّقه الحرب، بحثاً عن كشف هذا اللغز الذي تركته لهما أمهما؛ لغز يلعب دور بوابتهما إلى بلدهما الأم.

وتبدو مقدمة الفيلم الرائعة أنها تقول وتعبّر عن الكثير، بواسطة مشاهد التلال المترامية والطبيعة التي تبدو هادئة ظاهرياً، مما يدفع المشاهد إلى إحساس خاطئ بالأمان. ثم تنتقل الكاميرا إلى غرفة مليئة بالشباب الذين يتم حلق رؤوسهم على الطريقة العسكرية، أو إعطاؤهم أسلحة مخيفة. وبعد أن تنتقل الكاميرا ببطئ بين تلك الوجوه، تتوقف على صبي ذو عينيْن حادتيْن، ينظر إلينا بمزيج من الخوف والغضب والامتعاض، بينما تتساقط خصل شعره على كتفيْه، ليصبح حليق الرأس ومستعداً. وفي الخلفية أغنية فرقة راديوهيد ‘يو أند هوز آرمي’ تسمّرنا، حافرةً هذه الصورة القوية في ذاكرتنا – وهي صورة سوف تعود إلينا بقوة في وقت لاحق من هذا الفيلم. هذا المشهد وحده وما يحتويه من قيمة فنية، يستحق ثناءً لا حدود له.

وتنص وصية نوال، التي يبدو أنها عانت الكثير قبل موتها، على دفنها ووجهها إلى أسفل، عارية، وعدم تنظيم أية جنازة لها، وفيها تقول أيضاً “…إن الطفولة هي سكين في الحلق، لا يمكن إزالته بسهولة”. ويدرك التوأمان أنهما لن يقدرا على وضع أي شاهد على قبرها قبل أن يكشفا لغز ماضيها، بعد تسليم الرسالتيْن إلى أصحابهما.

هذا الفيلم مقتبس عن مسرحية من تأليف وجدي معوض تحت عنوان ‘سكورتشد’ التي لا أعرف عنها شيئاً، لكننا نشعر أن هذا المشروع حوّل عمل معوّض المسرحي إلى فيلم نال الكثير من الاعجاب والجوائز. ولقد حاز هذا الفيلم على اهتمام عالمي، حيث فاز في نحو عشرين مهرجان، كما ترشّح لجائزة أوسكار في فئة أفضل فيلم أجنبي. ‘آنسانديه’ كان أيضاً أحد الأفلام التي نالت إعجاباً كبيراً بعد عرضها في مهرجان الدوحة ترايبكا السينمائي 2010، مما شجع الكثيرين على استكشاف أسباب هذا الاعجاب الكبير به.

هل يمكن للحرب أن تكون شاعرية؟ مع فيلنوف يصبح هذا ممكناً. إنه أيضاً لأمر رومانسي وقاس، الجمع بين أكثر المشاعر الانسانية تطرفاً، والتي تؤدي إلى قرارات متطرفة كأن يتم تجنيد نوال المسيحية من قبل ميليشيا إسلامية. ويتكشف السرد الشاعري عن مناظر شاعرية خلابة تركز عليها المخرجة أحياناً كثيرة في الفيلم، ملقيةً الضوء بعد وقت قصير على حقيقة واقع قاسٍ ومؤثر.

ومن اللحظة التي تصل فيها جان إلى الشرق الأوسط، نبدأ بمشاهدة قصص من ماضي والدتها. وعلى الرغم من أن اسم البلد خيالي ولا وجود له، إلا أن التفاصيل التاريخية المذكورة تشير بوضوح شديد إلى لبنان. فكل موقع تزوره، نرى فيه ذكريات من ماضي أمها، ومعارك عنيفة تخوضها كامرأة فحسب وكناشطة سياسية. وحالما تصل جان إلى مسقط رأس نوال، تجد نفسها وجهاً لوجه مع الكراهية التي تستمر في نهش المجتمع، على الرغم من انقضاء سنوات على انتهاء الحرب. ويرفض أهل البلدة مساعدة جان بعد اكتشافهم أنها ابنة نوال، دون أية إشارة مسبقة إلى كون والدتها هي موضوع محرّم.

وبينما يكافح سيمون رغبات والدته المفروضة عليه، تأخذ جان وحدها المبادرة لإنهاء هذا الموضوع. فخلال مغامراتها، نكتشف أن هذه البلدة العدائية هي نقطة انطلاق عذابات نوال، بعد حملها من رجل فلسطيني، يقتل بوحشية على يد أخويْها. وبعد غرقها في العار، تنجب نوال ولداً ينتزعونه منها بعيد ولادته. ومع الوشم الذي على ذقنه، تقسم نوال على أن تجد ابنها بأي ثمن، لكنها تضطر إلى الهرب من البلدة تحت تأثير اضطهادها، وخوفاً من التعرض للقتل. وهذا ما يؤدي بها إلى اتخاذ قرارات مصيرية ناتجة عن غضب وامتعاض وخوف، تماماً كالشاب الذي نراه في المشهد الأول للفيلم.

الحرب ليست مجرد إطار للفيلم، بل تشرح لنا – بغض النظر عن مواقفنا السياسية – أن ما يختاره الناس لممارسته وإلقاء المواعظ حوله هو أكثر من مثل عليا. فقرار نوال الانضمام إلى الميليشيا كان نابعاً عن يأسها وعن الظلم الذي تعرّضت له. وبأسلوب التراجيديا الميثولوجي اليوناني، تكشف لنا الحبكة معلومات أساسية مع كل خطوة يخطوها التوأمان. وبعد سنوات من انقضائها، يتضح لهما أن الحرب لم تتوقف فعلاً عند الأبطال الذين تألف منهم عالم والدتهما الماضي، لكنها استمرت وعشعشت في نفوسهم.

وعلى الرغم من أن التوأمان كانا يعتبران أن والدتهما ليست سوى شخصيةً غير مستقرة وعصبية، تظهر المغامرة التي يقومان بها أن أمهما هي فعلياً امرأة شجاعة، معروفة أيضاً بلقب “الامرأة التي تغني”. لقد كان الماضي أليماً إلى درجة لا تُنتسى بسهولة، ويبدو أنهما لم يفهما أمهما طيلة حياتها.

هذا الفيلم هو عملا فاتن، ومشاهده لا تنتسى، مفاجئة ومشنجة وغامضة في أجزاء منها. تقوم فيلنوف بتصوير
الفيلم من وجهة نظر نوال الضعيفة وغريبة الأطوار، والتي يمكن أن تخصّ أي إنسان في نفس ظروفها، بغض النظر عن الدين أو الانتماء السياسي. وبالنسبة لمن لا يعرفون شيئاً عن النزاعات في الشرق الأوسط، يبدو أن السرد في الفيلم لا يحمل أي تبريء أو تجريم، أو إشارة إلى الصواب أو الخطأ. وكما هي الحال في الحروب، تأخذ القصة منحى شخصي، مشيرة إلى أن العدو الأسوأ للانسان يمكن أن يكون جزءاً ثميناً منه. إنها قصة كفاح نساء، وعشاق سيئي الحظ، وأمهات يتعذبن، وقصة حياة، وأسطورة عائلة لوثها المجتمع والحرب.

video#1

blog comments powered by Disqus