نقد سينمائي: المغامرة (1960)
23 مايو 2011

بقلم ريم صالح، قسم الاعلام الجديد، مؤسسة الدوحة للأفلام
الفيلم: لافنتورا (المغامرة)
العام: 1960
إخراج: مايكل أنجلو أنطونيوني
بطولة: غابرييل فيرزيتي، مونيكا فيتي وليا ماساري
النوع: دراما، آرت هاوس، عالمي، غموض، تشويق، كلاسيكي
قصتي مع هذا الفيلم شخصية جداً؛ لقد طبع حياتي. إنه مرجعي الأول والأخير، والذي أجّج شغفي العذب بالسينما.
يدور الفيلم الذي أخرجه مايكل أنجلو أنطونيوني، حول قصة آنا (ليا ماساري) وصديقتها المقرّبة كلاوديا (مونيكا فيتي) اللتان تذهبان في رحلة بحرية في المتوسط، على متن يخت مع ساندرو (غابرييل فيرزيتي)، يعمل مهندساً وهو أيضاً عشيق آنا. وخلال إحدى زياراتهم إلى الجزر البركانية، يكتشفون اختفاء آنا. ويتحول البحث الذي يقوده كل من ساندرو وكلاوديا إلى هوس: هذا البحث يقربهما من بعضهما البعض، فتتحول القصة وتأخذنا نحو علاقة جديدة ومعقدة. شاهدوا إعلان الفيلم هنا
حين شاهدت الفيلم هذا ضمن حصة دراسية، بالكاد تمكنت من فهم كل ما يتضمنه من أحداث. فبالنسبة لي، هذا الفيلم الستيني الذي فاز بجائزة لجنة التحكيم بمهرجان كان، كان بطيئاً، أما قصته فهي مربكة وتكاد تخلو من الأحداث. كل ما فهمته هو أننا كنا نبحث عن آنا، ثم حلّت كلاوديا مكانها في علاقتها مع ساندرو الذي يتصرف كالأطفال. فما الذي جعله مميزاً حتى هذه الدرجة؟ شاهدته مرة ثانية، لكن هذه المرة قرأت التعليق الذكي الذي قام به الناقد السينمائي جين يانغبلود. وقد نوّرني ذلك بطريقة غيّرت رؤيتي إلى السينما ورواية القصص إلى الأبد. وكما يقول جين نفسه: “فيلم لافنتورا، وهو الأول في ثلاثية (إلى جانب ‘لا نوتي’ (الليلة) 1961، و‘ليكليس’ (الكسوف) 1962)، كان يتمحور حول المواضيع الوجودية المألوفة للانسلاخ التي سادت في فترة ما بعد الحرب، وانعدام التواصل، والفشل في إيجاد معنى في عالم تسوده القيم البالية والقديمة.
تم تفصيل هذا الفيلم وقياسه بدقة، بمشاهد محكمة جداً. فكل إطار مشهدي هو تأليف، وحين نتكلم عن التأليف، نعني بذلك، كل ما يشمل الخلفية مع الأطر المشهدية وكل شيء أو صورة موجودة في الفيلم. على سبيل المثال، لا يجب أن يكون اختفاء آنا مفاجئاً، لأن أنطونيوني ترك لنا العديد من التلميحات: فهي تبحث دوماً عن الشبابيك والأبواب، تحشر نفسها فيها كالعارضة باحثةً عن مهرب. إنها قلقة ومضطربة، وكأنها تقول “أريد الرحيل“، وتماما ًقبل اختفائها، يظهر قارب صغير في الخلفية وهو يبتعد عن الجزيرة. هل من الممكن أن تكون آنا قد هربت على متنه؟ ذلك هو نوع التفاصيل التي تلاحظها في مشاهدتك الثانية للفيلم، لكنها موجودة بغرض التلميح. وقد تم التلميح إلى أن كلاوديا ستحلّ مكان صديقتها في علاقتها مع ساندرو في إحدى أجمل المشاهد على متن القارب، حين تتبادلان القمصان. فتبدوان في مشهد لهما من الخلف وكأنهما شخص واحد، تمحوان هويتهما وتبتكران أخرى جديدة.
لا يلجأ أنطونيوني إلى استخدام المقاطع الانتقالية كثيراً، لأنه يفضل أن تكون الصورة إلى وسيلة الانتقال نفسها، كالانتقال من مشهد إلى آخر عبر نفق، أو بوابة وعبر الطبيعة. كذلك الأمر بالنسبة للموسيقى: يستخدم القليل من الموسيقى للايحاء ببعض الأحاسيس والأجواء لأن تأليف الخلفية هو كل ما نحن بحاجة إليه لتصوير أحاسيس شخصياته. بالنسبة لأنطونيوني، يجب أن تكون الموسيقى مكمّلة، لا مولّدة لشعور معيّن – فيتكوّن لدى المشاهد مساحة كافية للتفكير وفهم الشخصيات.
أما المشهد الأخير للفيلم (أنظر الصورة في الأسفل)، فهو يلخّص مدرسة الأفكار لهذا المخرج المبدع. فيدور هذا المشهد حول تطور العلاقة بين الثنائي الجديد، اللذان باتا يخرجان سوياً في العلن، وقد تمت دعوتهما إلى حفلة كبيرة. كلاوديا في غرفتها، مرهقة، تقرر النوم، بينما يختار ساندرو الانضمام إلى المدعوين. تستيقظ كلاوديا وتبدأ البحث عنه، في غرف واسعة وفارغة، وكأنها تهرب من وإلى وحدتها. فجأة تلمح ساندرو مع فتاة ليل. فتركض كلاوديا عبر القناطر، تماماً كما كانت تفعل آنا في بداية الفيلم. إنها تبكي، إنها مفجوعة. تقف مقابل شجرة كبيرة وظهرها نحو المشاهدين، بينما تتحرك الأشجار مع الرياح، عاكسةً اضطراب المشاعر في داخلها.

The last scene of the film.
غير أن ساندرو لحق بها: إنه مقطوع النفس، يجلس على مقعد وينتحب كالأطفال. تتوقف كلاوديا عن البكاء، وهي تقف كالمنتصرة على رجليها. إنها قائدة هذه العلاقة الآن. إنها من ستقرر مصيرهما الآن، بينما يبدو هو مثيراً للشفقة وضعيفاً. من ناحيته نشعر بصمت جدار، لكن من ناحية كلاوديا، نشعر ببركان ينفث دخانه. تداعب شعره بشفقة. إنها تدرك سلطتها، وأن الطريق الوحيد لاستمرارهما سوياً يمر عبر إحساسها بالشفقة تجاهه. هذا المشهد، والأحاسيس التي يتضمنها، مصوّر بطريقة ذكية عبر الطبيعة من حولهما، وفي تأليف الصورة.
في الفيلم، يصوّب أنطونيوني ساندرو كرجل غير مسؤول. في كل المشاهد التي يظهر فيها، يبدو تأليف الصورة جافاً، وهندسياً في الخلفية – وهذا يشبه حقيقة شخصيته. بالكاد يمكنه فهم نسائه، وهنا يكشف أنطونيوني أحد أهم المواضيع التي يعالجها الفيلم: سوء الفهم. بالنسبة له، النساء هن من يكتشفن ضعف التفاهم في العلاقة، أو حين لا تسير على ما يرام. ولهذا، كل مشاهد آنا وكلاوديا هي في الطبيعة: إنهن دائماً جزءاً منها، وتبحثان عنها. إنهما ممتلئتان بمشاعر معقدة تماماً كالأشجار والجبال والرياح.
تحفة فنية بكل تأكيد، فيلم ‘لافنتورا’ قطعة فنية نادرة، مقدّرة ومحترمة. يعلمنا الفيلم أن السينما هي أعمق مما تراه أعيننا فحسب. كلوحة جميلة، يمكن لأحد ما أن ينظر إليها مراراً وتكراراً.