المدوّنة

العودة الى القائمة

نقد سينمائي: رسايل البحر (2010)

26 يونيو 2011

بقلم أمير اسكندر، قسم الاعلام الجديد، مؤسسة الدوحة للأفلام_

الفيلم: رسايل البحر
العام: 2010
إخراج: داوود عبدالسيد
بطولة: سام منير، بسمة أحمد، محمد لطفي، آسر ياسين
النوع: دراما، رومانسية

‘رسايل البحر’ هي قصة تجري في الاسكندرية، وهي رقيقة كقطعة من الشوكولاته السوداء: إنها خفيفة، لكن جريئة ومرضية. إن الكتابة عن ‘رسايل البحر’ يجعلني أتذكر عطر جدتي المفضّل، ‘أماريج‘؛ مباني الاسكندرية القديمة والمزهرة، وأنغام البيانو الرقيقة التي تنبعث من نوافذ مقاهيها. ‘رسايل البحر’ ليس قصة عن أشخاص، لكنه يطرح سؤالاً فلسفياً يطرحه كل شخص على نفسه في مرحلة ما من حياته – من أكون؟

ويروي الفيلم لنا قصة يحي (آسر ياسين) الذي ينتقل من القاهرة إلى شقة عائلته في الاسكندرية بعد وفاة والدته. ويعاني يحي من مشكلة التأتأة التي تبني حوله نوعاً من الحاجز الذي يعزله عن المجتمع. لقد عاش معظم حياته شبه معتمد على أمه وأخيه، لكن حين تتوفى والدته وينتقل أخوه إلى أميركا، يجد نفسه وحيداً. وتدفعه الحاجة للاعتناء بنفسه وإنشاء حياة خاصة به واختبار أمور جديد إلى المضي في رحلة للعثور على نفسه، وتقبّلها في النهاية.

ويتسبب انتقاله إلى الاسكندرية بإعادة إحياء ذكريات حبيبته السابقة كارلا (سامية أسعد)، لكن كارلا واقعة الآن في حب امرأة أخرى، رهام (دعاء حجازي)، مما يسبب له قدراً كبيراً من الالتباس. وزيادة في التعقيد، يلتقي يحي في إحدى الليالي الماطرة نورة (بسمة أحمد)، فتاة جميلة تحتمي تحت مظلة. فتعرض عليه الاختباء معها تحت المظلة، ثم تسير معه إلى المبنى الذي يسكنه حتى يتوقف المطر. تلمح له بإعجابه به، فيدعوها لشرب الشاي في شقته. توافق، وهكذا تبدأ قصة حبهما. كما أن واقع أن يحي يعتقد بأنها فتاة ليل لا يمنعه من الوقوع في حبها. لكن في الحقيقة نورة هي الزوجة الثانية لأحدهم، وهي تبحث عن الأمان، وترغب برجل يؤمن لها الدفء والأمان – وهذا ما تجده في يحي.

وتلعب بسمة أحمد هذا الدور ببراعة فائقة. إن شخصيتها تجعلك تشعر بأنها فراشة الفيلم، رقيقة وجميلة. وكأن شمس يحي لا يمكن أن تشرق ما لم تفتح نوره نافذتها وتلقي نظرة على حياته. آسر ياسين يأسرك بشخصيته أيضاً. إن دفأه الناضج والطفولي في آن يجعلك تتآلف معه. إنه كالطفل الكبير – صادق وبعيد عن الاصطناعية.

أقول إن الفيلم جميل بشكل كبير. إن سعي الشخصيات جميعها للعثور على الشيء ذاته – الأمان- يجعلك تشعر بالتعلق بها. أعجبت بالطريقة التي صوّر بها المخرج داوود عبدالسيد قصة حبهما. إنها قصة سليمة لا شوائب فيها. هناك تبادل عادل للاهتمام، والتفهم، والأمان والراحة. على الرغم من أننا نعتقد طوال الفيلم أن العلاقة بينهما كالعلاقة بين زبون وفتاة ليل، يمكننا رؤية كمية الحب والوفاء بسهولة بينهما. ومهما كانت الصعوبات التي يواجهانها، فإنهما لا يخذلان بعضهما البعض، بحيث أنهما يقفزان من علاقة بين حبيبيْن إلى علاقة والديْن بابنهما أو ابنتهما.

ويختلف الأمر تماماً بالنسبة لكارلا وصديقتها رهام. فالعلاقة لا تتعدى حدود الجنس بينهما، ولا أعتقد أن هذا عادل. فكل منهما امرأتان ناضجتان تعيشان حياة مثيرة للاهتمام، لذا لم تتكلمان بهذه الطريقة الايحائية الجنسية المستفزة؟ هذا سؤال أتمنى أن يجيب عليه المخرج. هل هي الحاجة لصورة نمطية أخرى في ثقافتنا؟ إنها خطوة إيجابية للسينما المصرية أن تناقش بانفتاح المثلية الجنسية، لكن باعتقادي يجب أن تناقش بعيداً عن الصور النمطية. يجب أن يتم تصويرها كما تم تصوير العلاقة بين يحي ونوره.

وويؤسس يحي صداقة مع الحارس الشخصي قابيل (محمد لطفي)، الذي يشبه طفلاً مسجوناً في جسد قبيح بعضلات، وذو وجه عابس وجاف. قابيل هو كالملاك الحارس ليحي، وهو يعتني به دائماً. ففي سياق الفيلم، نكتشف أن قابيل يعاني من ورم في الدماغ ويجب أن يجري عملية لإنقاذ حياته. لكن هذه العملية ستؤثر على ذاكرته، وهذا ما يسبب بنزاع كبير في الفيلم. أحب تمثيل محمد لطفي لهذا الدور، لا سيما حين يسأل يحي إذا ما كان وجهه يرعب الناس. يسأله هذا السؤال وعلامات البراءة مرتسمة على محياه، فيولّد على المزيج من البراءة والجراءة، تضارباً رائعاً. وحين يكتشف أن الجراحة ستكلّفه ذاكرته، يبدو شعوره بانعدام الأمان صادقاً – إنه يشعر بأن فقدانه لذاكرته سوف يخسره نفسه أيضاً. ويقرر أخيراً الخضوع للجراحة بعد أن تقنعه حبيبته بذلك، وتطمئنه بأنها سوف تدوّن كل ذكراياته، وستذكره بكل شيء حين يستيقظ. هذا إذا تمكن من تذكرها!

في النهاية، يجدر بي أن أذكر الرسالة التي يجدها يحي على شاطئ البحر. إنها مكتوبة بلغة غريبة لا يمكن لأحد أن يقرأها، وتمتد قصتها في سياق الفيلم، حاملةً رسالة فلسفية. إنها تمثل الروح الانسانية التي لا يمكن لأحد أن يفهمها. يمكنها أن تكون من بحّار لعائلته، أو مقطع من الشعر أو صلاة راهب، أو أحد ما يرغب بممارسة الألاعيب. لكن الأمر الوحيد الأكيد أنها رسالة من البحر للجنس البشري. فالرسالة والطريقة المقدمة بها مثيرة جداً للاهتمام، لكن ومع قيمتها الفنية، فلا يبدو وجودها ضروري في الفيلم.

‘رسايل البحر’ هو فيلم مثير للتفكير، ينجح بنقل عطر الاسكندرية الجميل بينما يعالج قضايا حساسة ويستكشف الجانب الفلسفي من الحياة.

blog comments powered by Disqus