المدوّنة

العودة الى القائمة

أهل السينما: محمد ملص

16 أغسطس 2011

ولد محمد ملص عام 1945 ودرس الاخراج السينمائي في معهد V.G.I.K في موسكو بين عاميْ 1969 و1974. بعد فترة وجيزة أخرج فيلم ‘القنيطرة 74’ و‘الذاكرة والفرات’. ومنذ العام 1984، أخرج ملص العديد من الأفلام، منها: ‘أحلام المدينة’ (1984)، و‘الليل’ (1992)، و‘الرمل تحت الشمس’ (1998)، و‘باب المقام’ (2004) و‘المهد’ (2007).فاز فيلمه ‘أحلام المدينة’ بالعديد من الجوائز ، منها جائزة التانيت الذهبي في مهرجان قرطاج عام 1984. أما فيلم ‘الليل’ ففاز بالجوائز الأولى في مهرجانات سينمائية عدة منها مهرجان فرايبورغ – سويسرا ، ومهرجان بروج السينمائي – بلجيكا، عام 1993.

مؤسسة الدوحة للأفلام: حدثنا قليلاً عن نفسك وعن أفلامك والجوائز التي فزت بها.
محمد: أحقـق الأفلام كي أحدث الناس عن نفسي! وحين يكون تحقيق الأفلام في بلدي غير متاحا ، أحدث الناس عن نفسي عبر الكتابة والأدب. دخلت المدارس لأتعلم القراءة والكتابة كي أعرف نفسي أكثر، ودرست الفلسفة في الجامعة كي أفهم الحياة والإنسان أكثر. وأثناء ذلك، ودون أن أدري، وقعت في عشق الصور، مما دفعني إلى دراسة السينما التي جعلتني أشعر أنها وسيلتي وأداتي للتعبير عن نفسي.

منذ أن حققت فيلمي القصير الأول في معهد السينما في موسكو، أدركت أني أحقق الألفلام كي أبحث عن ‘المفقود’ في الحياة التي أعيشها. فلم أستطع بعدها أن أتخلص من هذا الحنين والإحتياج لهذا ‘المفقود’ . ولم أخن نفسي في الإستمرار في البحث عنه … وكل ما تغير بي بعدها هو أني سعيت كي يكون المفقود في الواقع موجود في السينما.

المفقود الذي أبحث عنه في الواقع المعاش هو بالنسبة لي: الزمان والمكان الذي أفتقده في بلدي، في مجتمعي، وافتقدتهما خلال رحلة العمر التي عشتها والتي أعيشها اليوم. لذلك تشكل الذاكرة المعاشة والذاكرة العامة للإنسان في بلدي المرجع الأساسي في صياغة التصور الذي أريد التعبير عنه.

يوم كتبت سيناريو فيلمي الروائي الطويل الأول ‘أحلام المدينة’ عام 1982، لم أتعمد الحديث عن الأجواء الديمقراطية التي كان يعيشها الإنسان في بلدي. لكني حين أنجزت الفيلم اكتشفت أن هذا هو ‘المفقود’ الذي أبحث عنه.

وحين أنجزت فيلمي الروائي الطويل ‘الليل’ أردت أن أبحث وأستعيد المكان الذي يسمى ‘مسقط الرأس’ فوجدت أن هذا المكان مدمر وقد دمره العدو الإسرائيلي خلال قصفه لمدينة القنيطرة، فأردت أن أبنيه .
لكني طبعا لا أستطيع بناءه إلا في السينما، فبنيته وأخذت أعيش فيه.

أردت البحث عن الحرية من خلال أمرأة تحب الغناء في فيلم ‘باب المقام’ أو ‘Passion’ كما هو عنوانه بالانكليزية، فقتلها أهلها بعد أن اشتبهوا بشرفها.

في المشروع الحالي ‘نامو سينما’ الذي كتبته قبل الأحداث الحالية في سوريا، لم أكن أتوقع على الإطلاق أن ينتفض الجيل الشاب بحثا عن الكرامة فتحدث في سوريا حركة احتجاجية على النظام السائد، لكني كنت قد كتبته وأنا أبحث عن المفقود في العالم الداخلي للشباب في سوريا! وأتساءل إلى أين تمضي بنا الأيام؟ وإلى متى ؟

مؤسسة الدوحة للأفلام: تهانينا على التمويل الذي حصلت عليه من مؤسسة الدوحة للأفلام. أخبرنا المزيد عن هذا الفيلم الجديد ومتى يمكننا توقّع مشاهدته؟
محمد: إنه مشروع فيلم ‘نامو سينما’ الذي حاز على الدعم الإنتاجي من مؤسسة الدوحة للأفلام، وهذا الدعم هو الذي نقل المشروع من الورق إلى إمكانية التحقق. هو مشروع فيلم يستكمل مشروعي السينمائي العام، الذي كرست له كل رحلتي عبر السينما. لكني في هذه المشروع أحكي عن رؤيتي للشباب اليوم في سوريا، والمصائر المحتملة في ظل وضع لا يتيح لهم أي شيء ولا يقدم لهم أي شيء.

لكن ما يحدث من احتجاج وانتفاضات متناثرة في أبعادها العميقة ، دفعتني للتأمل في المشروع من جديد ليس بحثا عن العابر في ما يحدث، بل لمنح المشروع بعداً راهناً يجوهر طموحه ورسالته. مما لاشك فيه أن الأحداث الراهنة تزيد من صعوبة التصوير، لكن فيما لو توفرت لي بالإضافة لدعم مؤسسة الدوحة للأفلام جهة منتجة تتبنى المشروع، فأعتقد أنه من الممكن توقع مشاهدته في خريف 2012.

مؤسسة الدوحة للأفلام: أنت أحد رواد السينما التجريبية في المنطقة، الذين لفتوا انتباهاً عالمياً. ما الذي يميّز مواضيع أفلامك؟
محمد: بالتاكيد لست أحد هؤلاء الرواد. فقد سبقني رواد كبار في السينما العربية ، تعلمت منهم الكثير … لعلي من الأوائل الذين اختاروا سينما ‘المؤلف’ في سينما البلدان العربية للتعبير عن واقع المجتمع السوري.

لعل الذي لفت الانتباه عربياً وعالمياً إلى أفلامي هي تلك ‘الهارموني’ بين الذاكرة الخاصة والذاكرة العامة في القضايا والمواضيع التي تناولتها هذه الأفلام. كما أن الذي يميّز مواضيع الأفلام هو ارتباطها وحرارتها وأهميتها بالنسبة للناس. وكذلك الصدق في التعبير عن هذه المواضيع والقضايا.

مؤسسو الدوحة للأفلام: بعض النقاد المعروفين وصفوا أفلامك بأنها رحلة من الشعر المرئي. ما هي التقنيات التي تطبقها في سياق روايتك للقصة؟
محمد: أعرف أن أفلامي هي رحلة في عالمي الداخلي للبحث عن الأحاسيس وعن الأشياء التي أحتاجها للعيش بحرية وكرامة في هذا الواقع الذي نعيشه. فهذا الواقع عرفته جيداً ليس عبر الكتب والحكايات بل بالتجربة والمعايشة، حيث أني بدأت حياتي عاملاً وسط الناس الشعبيين ، فمنحني هذا الواقع الوعي لهذه التجربة.

لم تكن التقنيات هي مرجعياتي للتعبير عن ذلك، بل الصدق والشجاعة والطموح، كأن أروي بلغة خاصة وذاتية وبجمالية تسعى للخروج من اللغة السائدة في سينمانا وتطوير التعبير السينمائي.

مؤسسة الدوحة للأفلام: درست الفلسفة في سوريا والاخراج السينمائي في موسكو. كيف أثرت الفلسفة ومدارس السينما الروسية على رؤيتك السينمائية وطريقة صناعتك للأفلام؟
محمد: إذا كانت التجربة الحياتية التي عشتها قبل ذلك من فقد الأب في سن مبكرة، والعمل في حي شعبي لسنوات طويلة (13 عاما) إلى دمار مسقط الرأس وغيرها، فإن دراسة الفلسفة علمتني كيف أفكر بهذه التجربة، ومنحتني الأسس والمنهج والأساليب التي ستساعدني مستقبلاً في رؤية الواقع والعالم.

أما في معهد السينما في موسكو، فقد تعلمت كيف أتعرف على نفسي بصرياً! والفضل في ذلك يعود بشكل رئيسي للمعلم الذي تولى تربيتي سينمائياً على مدى السنوات الخمس في هذا المعهد. في تلك الأيام (1969 –1974) وبسبب ندرة الأفلام التي كنت قد شاهدتها من التاريخ الغني للسينما العالمية، فإني لم أكن أميز بين المدارس السينمائية أمام نهم المشاهدة والإشباع …

فيما بعد كان حماس هذا المعلم للأفكار والصور التي كتبتها ودعمه كي أحقق أفلاماً تعبر عن ذاتي ورؤيتي الوجدانية لما يعانيه الإنسان في مجتمعي وبلدي – وقد فعلت ذلك في الأفلام الثلاثة التي حققتها خلال دراستي في المعهد – ما دفعني إلى رسم خياري السينمائي. وقد مارست هذا الخيار في الأفلام التي أنجزتها وفي الأفلام التي أثرت بي، واختياري للمخرجين الذين أنجذب إلى أعمالهم. لقد كانت الأفلام ذاتها أكثر أثـراً في داخلي من المدارس السينمائية المختلفة.

مؤسسة الدوحة للأفلام: كصانع أفلام عربي ما هي أبرز الصعوبات التي واجهتها في مسيرتك الفنية؟
محمد: كصانع أفلام سوري لم أواجه إلا الصعوبات فقط! كثيراً ما رددت أن الأفلام التي حققناها في سوريا تحققت على عظامنا وعظام المجموعة الفنية التي عملت في تلك الأفلام.

أما أبرز هذه الصعوبات فهي غياب الإنتاج وحضور الرقابة بما فيها الرقيب الداخلي المسبق الصنع
في داخلنا. وكذلك وبالإضافة للرقيب السلطوي هناك الرقيب الإجتماعي والديني … فأنا أحس أني لم أحقق بعد أي فيلم وأنا أحس بالحرية. كما نواجه اليوم صعوبة غياب الجمهور!

لم أعط يوماً أي اهتمام لأية صعوبات تقنية أو فنية، على الرغم من وجودها. فقد تمكنا من مواجهتها، وحاولنا كجيل من السينمائيين السوريين ممن بدؤوا العمل في السينما منتصف السبعينات مواجهة هذه الصعوبات بالبحث عن لغة تعبير جديدة وبالتحايل والمجاز والرمز. لم ننجح دائماً، لكننا كنا نحاول … لكن السؤال هو كيف يمكن مواجهة غياب الإنتاج لتحقيق فيلم؟ لم يكن لدينا في البداية إلا الانتظار والصبر والعمل على التفكير بالمشروع وتدقيقه وإغنائه لسنوات أحياناً، ريثما نستطيع أن نقتنص الفرصة
ونستطيع تحقيق الفيلم (ربما كل عشر سنوات مرة).

مؤسسة الدوحة للأفلام: إن أفلامك بارعة بالانتقاد والصور الاجتماعية، هل باعتقادك أن الأفلام قادرة على تغيير الحاضر؟
محمد: في مقتبل التجربة والعمر كنا قد وقعنا في أوهام كثيرة، ومنها أن فيلما يستطيع ليس فقط تغيير الحاضر بل تغيير النظام السياسي. لكننا أدركنا فيما بعد أنه يمكن للثقافة والسينما أن يؤثرا في وعي الإنسان وتحريضه على التغيير، في حال توفرت الأجواء السياسية التي تتيح لهما أن يقوما بدرورهما الفعال.

مؤسسة الدوحة للأفلام: بين الأفلام الوثائقية والروائية الخيالية، متى تعرف أي طريق تختار؟
محمد: صحيح أني درست السينما الروائية وأن معلمي كان روائياً بامتياز في سينماه ، لكني منذ أن وطأت أرض الوطن عائداً كي أحقق السينما، لا أعرف كيف تداعى الجدار الوهمي بين السينما الروائية والسينما الوثائقية وبدت لي السينما كسينما بذاتها. فاخترتها بهذا البعد وبهذا الفهم!

في البداية كان علي أن أعمل في التلفزيون الذي كان يعتبر آنذاك (وربما حتى اليوم) أن السينما عبء وليست من مهماته. فلم يكن متاحاً لي إلا الأفلام الوثائقية وأحيانا الروائية القصيرة. لذلك يومها لم تكن الأفلام الوثائقية خياراً … لكن التصور للأفلام التي حققتها أنذاك، أخذني لتثبيت رؤيتي الذاتية للفيلم سواء كان روائياً أو ثائقياً.

ما يحدد اليوم الخطوة نحو هذا أو ذاك، هو طبيعة الفرصة المتاحة، أو الحدث الذي يناديك ويشغل وجدانك، أو الشخصية التي تحب أن تقدمها. لابد لي أن أعرف خياري منذ البداية وأن أعرف السبب، لكن المعالجة والتصور والأسلوب في التعبير لن يختلفا كثيراً.

حين خطرت لي فكرة فيلم ‘المنام’ عام 1987، الذي وصفته مجلة تيليراما الفرنسية بأنه “جميل إلى درجة الخوف“، والذي يروي فيه الفلسطينيون في المخيمات في لبنان مناماتهم التي يرونها أثناء النوم، لم أتخيل أبداً أن يُكتب ويُؤدى من قبل الممثلين. منذ اللحظة الأولى كنت أراهم وهم يحكون لي مناماتهم. لم أكن أعرف المنامات التي يرونها لكني كنت أعرف المنامات التي أراها أنا. وكنت أعرف أني أريد أن أصنع من مناماتهم ‘الكابوس’ الروائي الذي أحسه. ومن المفارقات القدرية أني ما إن أنهيت التصوير عام 1982، تم اجتياح بيروت وحدثت مجزرة صبرا وشاتيلا مع الشخصيات التي كانت تروي لي مناماتها أمام كاميرا الفيلم.

لقد رويت ذلك كله في الكتاب الذي صدر عن دار الأداب في بيروت عام 1990 بعنوان ‘المنام. مفكرة فيلم’ ولأسباب إنتاجية لم يرى الفيلم النور إلا في عام 1987.

مؤسسة الدوحة للأفلام: مع كل تلك الثورات في العالم العربي، ومع معرفتنا المسبقة بمدى ما تعنيه لك قيم الحرية الشخصية ومكافحة الظلم، هل ترى أملاً يرتجى من السينما العربية؟
محمد: في أعماقنا أحس أن الأمل موجود. ألم يقل الكاتب السوري سعد الله ونوس إننا “محكومون بالأمل“؟ إنه الأمل بالقدرة على التغيير مهما طال الزمن. لذلك سعت الأنظمة المستبدة لتهميش الثقافة وحالت بكل ما استطاعته أن تجهض السينما الحقيقية.

السينما اليوم في تونس ومصر لا تشبه ما كانت عليه قبل التغيير. رغم أن هذا التغيير لم ينجز كل خطواته بعد، فأنا أعتقد وأثق أن الإنسان في المنطقة العربية اليوم سواء نجح في التغيير كما يريد ويتمنى أو لم ينجح بعد، قد اختلف نوعياً وجذرياً. لقد حطم ‘الجدار’ في روحه والذي كان يفصل بينه وبين نفسه.

مؤسسة الدوحة للأفلام: ما هي الرسالة التي تود توجيهها لصناع الأفلام الشباب الصاعدين؟
محمد: أناشدكم ألا تنتظروا أي شيء! صوروا ما تشتهون تصويره، وعبّروا عن أنفسكم بحرية كما تريدون وكما تفكرون وكما تستطيعون. كل ما أرجوه هو أن تعطوا للصورة وأن تمنحوها أهميتها وجمالها وأن تدركوا أن للصورة قيمة تصل إلى حد القداسة.

video#1

blog comments powered by Disqus